[b]مـمـــــر التنميـــة والتعمــــير........ فاروق الباز[/b]

مـمـــــر التنميـــة والتعمــــير

فاروق الباز
بدأت في دراسة صحاري مصر منذ ثلاثين عاماً، وأعتقد أنها يمكن أن تؤهل حياة كريمة لعدد كبير من السكان. لذلك لا يصح أن تبقي مدن مصر مكتظة بالسكان في نطاق وادي النيل الضيق ودلتاه. ينتج عن هذا التكدس مصاعب حياتية كثيرة منها ضياع الوقت في التنقل وعدم توفر الغذاء الصحي وتكدس المدارس إضافة إلي الآثار البيئية السيئة. إذاًَ يجب علينا أن نبحث عن سبل تؤهل جذب نفر غفير من أبناء مصر للعيش الكريم خارج هذا النطاق الضيق، في كل من صحراء سيناء والصحراء الشرقية والصحراء الغربية.

لا يتم جذب السكان إلي أماكن جديدة إلا إذا توفرت فرص العمل في ميادين مختلفة مع وجود المسكن الملائم وسبل المعيشة الهادئة الآمنة. فقد تعلمنا من مشروع الوادي الجديد في الواحات الخارجة والداخلة والفرافرة وكذلك مشروع تعمير سيناء وحديثا من مشروع توشكي أن الغالبية العظمي من الشعب المصري لن تفضل العيش الدائم بعيداً عن بلد الأصل. فيسافر المصري باحثاً عن عمل في أي مكان طالما أنه يخطط إلي العودة إلي بلده وأهله. لذلك يجب التفكير في فتح آفاق عــــديدة لجـــــذب الســـــكان بالقرب من مدن وقري وادي النيل والدلتا ليشعر الناس أنهم ما زالوا بالقرب من بلد الأصل.

ويتفق الجميع أن الوضع قد تفاقم كثيراًَ خلال نصف القرن الماضي لعدة أسباب، ولم يتمكن أولو الأمر من القيام بما يلزم من مبادرات تعني بالوصول إلي الغرض المنشود ألا وهو ازدهار الاقتصاد الوطني.

في نفس الوقت ازداد عدد السكان ازديـــاداً مطــرداً في عـــدم وجـــود ما يكفي مـــن فرص العمــــل أو إعــــداد المواطنين والمواطنـــــات مــــن الشــــــباب لما تتطلبه سوق العمل في العصر الحديث. نتج عن ذلك ركود في الإنتاجية مما أضر بالاقتصاد الوطني أكثر فأكثر وبقيت مصر في موقع لا يليق بها بين باقي الأمم.

تقدمت بلاد كثيرة مثل كوريا وماليزيا وإندونيسيا وتركيا وجميعها يتصف بكثرة عدد السكان. نتج نجاحها من وضع سياسات أهلت التقدم الإنتاجي وفتحت آفاقا جديدة لشعوبها لكي تتنافس مع مثيلاتها. أما في مصر فما زال الشعب يعاني من مشاكل كثيرة سدت طرق التقدم والرفاه.

في وضعنا الحالي لا يكفي إقامة مدينة جديدة هنا ومركز صناعي هناك، أو إنشاء طريق يسهل الوصول إلي موقع ما. لابد أن تكون هناك خطة شاملة متكاملة لفتح آفاق في ميادين كثيرة في كل من الدلتا والصعيد والنوبة. طبعا لا يتم ذلك بين عشية وضحاها، ولكن يلزم التخطيط له حتي إذا تطلب الأمر عشرات السنوات. هكذا الحال في المقترح الذي أقدمه في هذا الكتاب والذي نتج عن معرفتي بمواصفات الصحراء الغربية في مصر.

تؤهل هضبة الصحراء الغربية القيام بما يتطلبه تعزيز واقع التنمية والتعمير بموازاة نهر النيل. لذلك فلقد اقترحت ممر التنمية والتعمير منذ عشرين عاما وأعيد طرحه الآن لازدياد أهميته. ولقد آثرت إعداد هذا الكتاب لتكون المعلومات الأساسية في يد كل قارئ يهتم بمستقبل بلاده. ويحدد ما جاء في هذا الكتاب ملامح برنامج التوسع العمراني والزراعي والصناعي والتجاري والسياحي رويداً رويداً علي مسار 12 محورا يصل طولها الكلي إلي 1200كيلو متر، تبدأ من مراكز التكدس السكاني وتمتد غرباً حتي تصل إلي طريق من ساحل البحر المتوسط شمالاً حتي بحيرة ناصر في الجنوب بطول 1200 كيلو متر تقريباً وعلي مسافة تتراوح بين 20 و 30 كيلو مترا من حافة هضبة الصحراء الغربية. يفتح هذا الممر بأكمله آفاقاً جديدة للامتداد العمراني والزراعي والصناعي والتجاري والسياحي حول مسافة تزيد عن 2000كيلو متر. لم تتمكن الحكومات في الماضي من الأخذ بالمشورة لأسباب مختلفة. ولأن مصر في حاجة ماسة إلي مخرج من الوضع الاجتماعي الصعب في الوقت الحالي بالذات، فإنني أعيد طرح المقترح ليتم النظر فيه بمشاركة الناس. وربما للتنفيذ بأموال مستثمرين من القطاع الخاص الوطني أولاً ثم العربي ثانياً ثم العالمي ثالثاً.

يعتبر النقل من أساسيات التقدم والازدهار علي مر العصور، ونحن نعلم أن قيام الدولة المصرية القديمة منذ أكثر من خمسة آلاف عام اعتمد علي النيل كطريق يربط شمالها بجنوبها حيث كانت تنتقل من خلاله الناس والأخبار والغذاء والمنتجات والبضائع ورجال الأمن وجامعو الضرائب وكل ما يمثل كيان الدولة وسر بقائها. كذلك اعتمد الإغريق والرومان والعرب علي تسهيل وتأمين النقل في جميع أرجاء حضاراتهم. وفي العصر الحالي نَمَت أوروبا بعد إنشاء شبكات الطرق السريعة فيها. وكذلك تفوقت أمريكا علي باقي العالم الغربي باستخدام ثروتها الطبيعية أحسن استخدام، مما استدعي إنشاء شبكة متميزة من السكك الحديدية والطرق في جميع أرجائها.

وبالنسبة لنا في مصر لا يصح إنشاء شبكة طرق جديدة في وادي النيل والدلتا لأن في ذلك اعتداء علي الأرض الزراعية المُعتدي عليها أصلاً نتيجة النمو الكبير للكتل السكانية العشوائية وغير المُرخَص لها في أغلب الأحيان. هذه الأراضي الخصبة رسبها نهر النيل العظيم علي مدي ملايين السنين. ولقد تكدس سكان مصر في مساحة محدودة منها نتيجة الزيادة المستمرة في عدد السكان، ولا يعقل أن نستمر في العيش علي 5% من مساحة أرضنا مع الاستمرار في البناء فوق التربة الزراعية. لذلك فلابد من فتح آفاق جديدة للتوسع العمراني والزراعي والتجاري خارج نطاق وادي النيل الضيق.

يؤهل المقترح الحالي، إضافة إلي تسهيل النقل بين أطراف الدولة، الحد من التوسع العمراني في وادي النيل والدلتا بفتح آفاق جديدة للنمو بالقرب من التجمعات السكانية الكبري ومجالات لا حصر لها في استصلاح أراضٍ صحراوية وإنشاء مشاريع جديدة للتنمية في مجالات الصناعة والتجارة والسياحة. كما يعطي المقترح أملاً جديداً لأجيال المستقبل باستخدام أحد عناصر الثروة الطبيعية وأقربها إلي التجمعات السكانية الحالية وهو الشريط المتاخم لوادي النيل في الصحراء الغربية.

لقد أختبر هذا الجزء من الصحراء الغربية بُناءً علي خبرة في تضاريس مصر وإمكاناتها التنموية. يتكون الشريط المتاخم لوادي النيل من هضبة مستوية بميل بسيط من الجنوب إلي الشمال بموازاة النيل. ولا تقطع المنطقة أودية تهددها السيول كما هو الحال في شرق النيل أو كثبان رملية متحركة كما هو الوضع في المنخفضات غرب المنطقة. كذلك تتواجد مساحات شاسعة من الأراضي التي يسهل استصلاحها لإنتاج الغذاء إضافة إلي احتمالات تواجد المياه الجوفية.