أثارت مقترحات التعديلات الدستورية جوا من الحوار حول دائرة واسعة من قضايا الشأن العام لعل من أهم جوانبها النقاش حول مبدأ المواطنة, وإلي ماذا يشير هذا المفهوم, وهل هو فكرة جديدة علي حياتنا السياسية, ولماذا يطرح الآن؟.
والحقيقة أن المواطنة ليست مصطلحا أو مفهوما جديدا علي الحياة السياسية المصرية. فمصر دولة تاريخية قديمة, انصهرت المكونات المختلفة لشعبها عبر التاريخ في بوتقة جعلت من هذه المكونات نسيجا موحدا يقوم علي أساس المعيشة المشتركة. وجاءت الثورات المصرية في أعوام1952,1919,1882 لتؤكد أن المواطنة هي أساس بناء مؤسسات الدولة المصرية الحديثة.
ومن الناحية النظرية يشير مفهوم المواطنة إلي ثلاثة جوانب. فهو أولا, يتضمن علاقة قانونية هي علاقة الجنسية. وهي علاقة بين الفرد والدولة بمقتضاها تسبغ الدولة جنسيتها علي عدد من الأفراد وفقا للقوانين المنظمة ذلك. وهو ثانيا, يشير إلي علاقة سياسية تشمل مجموعة من الحقوق والحريات والواجبات. فالمواطنون وحدهم هم الذين من حقهم الاستفادة من الخدمات الاقتصادية والاجتماعية التي تقدمها هيئات الدولة, وهم وحدهم الذين يحق لهم ممارسة الحقوق السياسية كالانتخاب والترشيح وتكوين الأحزاب, وهم وحدهم أيضا الذين عليهم واجب أداء الخدمة العسكرية. ومؤدي ذلك أن مفهوم المواطنة يرتبط ارتباطا وثيقا بمشاركة المواطن في الحياة العامة. ثم هو ثالثا, علاقة معنوية وعاطفية ترتبط بحب الوطن والولاء لمعطياته ورموزه من لغة وتاريخ وثقافة وغير ذلك من رموز الهوية والانتماء.
وبالنسبة لأغلب الناس, فإن الجوانب الثلاثة للمواطنة تتطابق مع بعضها البعض. أي أن أغلبية مواطني دولة ما يعيشون علي أرضها, ويشاركون في أنشطة مؤسساتها السياسية والاجتماعية, ويرتبطون معنويا برموزها. ولكن ترد استثناءات علي ذلك مثل الأشخاص الذين يحملون جنسية اكثر من دولة ويمكنهم ممارسة حقوق المواطنة في الدولتين وفقا للقوانين المنظمة لذلك. من ناحية أخري, قد ترد قيود علي ممارسة بعض حقوق المواطنة كحق الترشح للبرلمان ومثال ذلك الحكم الصادر في مصر بمنع مزدوجي الجنسية من الترشيح لمجلس الشعب أو بمنع من لم يؤد الخدمة العسكرية من هذا الحق.
هذه المفاهيم, في جملتها, ارتبطت بظهور الدولة الوطنية الحديثة وتبلور العلاقة بين المواطن والدولة علي نحو غير مسبوق في التاريخ. فالمواطنة تشير في معناها القانوني إلي أحد أركان الدولة الحديثة وهو' الشعب' الذي يتكون من مجموعة الأفراد الذين تمارس مؤسسات الدولة ولايتهم عليها ويخضعون لقوانينها. ومن ثم, فإن حدود الجماعة السياسية المصرية تتماثل مع حدود المواطنة المصرية, ويشارك فيها المصريون دون سواهم.
وبنفس المنطق, فإن المواطنة تمثل رباطا سياسيا بين المواطن والدولة يكون من شأنه ترتيب مجموعة من الحقوق والواجبات العامة لعل أهمها انفراد المواطنين بالحق في اختيار حكامهم من خلال انتخابات دورية حرة ونزيهة, وأن يكون لهم دورهم في الرقابة علي سلوك الحكام من خلال مؤسسات تمثيلية منتخبة, وكذا من خلال الرأي العام وهيئات المجتمع المدني.
ومن هنا نشأ الارتباط الوثيق بين مبدأ المواطنة وفكرة تكافؤ الفرص والحقوق المتساوية من ناحية, وكذلك ارتباط هذا المبدأ بالنظام الديمقراطي من ناحية أخري. فلا مواطنة بدون مساواة في الحقوق والواجبات بين أبناء الوطن الواحد بغض النظر عن الدين والمذهب والنوع والأصل, وهذا هو جوهر المادة40 من دستورنا الحالي. ويكون من تبعات المواطنة الحقة التأكد من تمتع جميع المواطنين بهذه الحقوق وبحث المعوقات التي يمكن أن تؤدي إلي عدم تحقق ذلك بالنسبة لمجموعة أو أخري منهم.
من ناحية أخري, فإنه ليس من المبالغة القول بأن ممارسة حقوق المواطنة بشكل كامل تتطلب توافر نظام سياسي ديمقراطي. فالمواطنة والديمقراطية صنوان ووجهان لعملة واحدة. فممارسة حقوق المواطنة تتطلب مناخا ديمقراطيا. وبنفس المنطق, فإن ممارسة الحقوق والحريات السياسية والاجتماعية يكون من شأنها ترسيخ قيم المواطنة ودعم مشاعر الولاء والانتماء للوطن. فعندما يدرك المواطن بأن صوته ورأيه يساهمان في تحديد الأولويات ورسم السياسات العامة, فإن من شأن ذلك زيادة ارتباطه ببلده ووطنه.
وهكذا, فإن المواطنة هي فكرة جامعة تضم بين ظهرانيها أبناء الشعب الواحد علي تنوع المكونات الدينية والسلالية والعرقية والقبلية والطائفية التي يشملها هذا الشعب, وهي بمثابة' القاسم المشترك' الذي يربط بين هذه المكونات ويحقق ترابطها وائتلافها الوطني في إطار الدولة.
ومن الخطأ البالغ قصر مفهوم المواطنة علي علاقات التنوع الديني مثل العلاقة بين أبناء الديانات المختلفة في مجتمع ما. فذلك يمثل أحد جوانب المفهوم الذي يشمل أيضا ضمان المساواة بين المواطنين علي أساس النوع أي العلاقة بين الرجال والنساء, والمساواة بين المذاهب والطوائف الذين ينتمون إلي نفس الدين, والمساواة في الخدمات بين المواطنين الذين يعيشون في مناطق مختلفة من إقليم الدولة, وضرورة توفير الخدمات الأساسية لكل المواطنين بغض النظر عن مكان إقامتهم, وكذا المساواة بين المواطنين دون اعتبار للأصل أو اللون. ومؤدي ذلك أن علاقة الدولة بمواطنيها هي علاقة سياسية وقانونية في المقام الأول تنهض علي المساواة بين جميع المواطنين, وأن تكون الجدارة والكفاءة هي الأساس في التمتع بالحقوق والخدمات التي تقدمها هيئات الدولة.
أما عن لماذا الآن والأسباب التي دعت إلي اقتراح إدخال مبدأ المواطنة في المادة الأولي من الدستور كأساس تقوم عليه الدولة, فإن السبب الرئيسي يكمن في متابعة ما يحدث في عدد من الدول العربية التي تتعرض اليوم لعمليات' التجريف' الاجتماعي والطائفي تحت تأثير أفكار وتوجهات مذهبية وطائفية مسمومة تقسم أبناء الوطن الواحد علي أساس الدين أو الطائفة أو الأصل أو العرق. ومطلوب منا جميعا حماية بلادنا من تأثير هذه الأفكار المسمومة والاتجاهات الفاسدة, وذلك من خلال إعادة الاعتبار لمبدأ المواطنة الذي سعت بعض الآراء إلي التهوين من شأنه والتقليل من قدره لحساب ولاءات أخري.
فالمواطنة هي العمود الفقري والأساس الدستوري لكافة الحقوق والحريات في الدولة. ومن ثم, تصبح' حقوق المواطنة' هي أساس جميع الحقوق السياسية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية التي ينص عليها الدستور والقانون. ويكون شيوع ثقافة المواطنة هو تأكيد لثقافة الديمقراطية, وتأكيد للحقوق المتساوية لكل المواطنين.
ومن الضروري تأكيد أن النص علي أن الدولة المصرية تقوم علي مبدأ المواطنة في الدستور هو ليس نهاية المطاف, بل أن يكون هذا النص منطلقا لممارسات فعلية تضمن تطبيق حقوق المواطنة وحرياتها, وأن تتوافر نظم المتابعة والرقابة القانونية والسياسية والشعبية لهذه الممارسات. بهذا, يتحول مبدأ المواطنة من نص دستوري إلي واقع حي معاش يلمسه المواطنون في حياتهم اليومية. إن مصر وطن لكل المصريين. وطن يقوم علي العيش المشترك الواحد لكل أبناء الشعب. لذلك كان من الطبيعي أن يحظي الاقتراح بتعديل المادة الأولي من الدستور بشأن مبدأ المواطنة بدعم كافة الأحزاب المصرية وتأييدها.
[ نقلاً عن جريدة الأهرام